يستقبل الإقليم، بل والعالم هذا اليوم السبت بحفاوة، لعل فيه الانفراج الذي يسمح للمنطقة بتنفّس الصعداء، إذ ستكون الأنظار مشدودة إلى عاصمة التفاوض العربية مسقط، التي تستقبل جولة جديدة من المفاوضات الأميركية الإيرانية، بعد إعلان واشنطن وطهران عنها.
لا أبالغ إن قلت إنها من أهم المحطّات، فقد تعكس تحولاً حاسماً في صراع ممتدّ منذ عقود بين الجانبين.
وربما، كغيري من الباحثين، أرى أن هذه المفاوضات ليست مجرد لقاء دبلوماسي عابر، بل هي جزء من لعبة استراتيجية معقّدة، تجسّد تقاطع المصالح والتهديدات، وتتكامل فيها عناصر الجغرافيا السياسية، والتكتيك العسكري، والعقيدة السياسية، والإيديولوجية، والواقعية، كلٌّ بحسبه. فهذه الجولة الجديدة من التفاوض، الأولى من نوعها، تأتي في وقت تتصاعد فيه التوترات الإقليمية في الشرق الأوسط على وقع حرب الإبادة الإسرائيلية، وفي عهد رجل يسعى للتسلط على العالم والقتال حتى الرمق الأخير من أجل الحفاظ على الهيمنة الأميركية، وبالتزامن مع حالة من الاستقطاب العالمي المحكوم بتوازنات القوى التي ظهرت جلية خلال الحرب التجارية التي بدأها دونالد ترامب.
دوافع الطرفين ومقوّماتهما للذهاب إلى التفاوض
تبدو هذه المفاوضات في ظاهرها خطوة في الاتجاه الصحيح، لكن في كواليسها قد تختزن التشاؤم، إذ لكل طرف فيها دوافعه ومقوّماته ووسائله.
فالضغط والتهديد والتلويح بالعمل العسكري والعقوبات الاقتصادية تشكل سياسة واشنطن ضد طهران. ومنذ انسحابها من الاتفاق النووي عام 2018، استخدمت الولايات المتحدة «سياسة الضغط القصوى»، التي شملت فرض عقوبات مشدّدة، وتكثيف الحروب الاقتصادية.
لكن في الواقع، تدرك واشنطن أن الضغط بلا أفق قد يؤدي إلى تصعيد كبير، ولا سيما مع قدرة إيران على الرد ولو بشكل مدروس. لذلك نلاحظ التبدلات في التكتيك الأميركي، فقد وافقت واشنطن على مفاوضات غير مباشرة في المرحلة الأولى، ما قد يوفّر لها فرصاً لتقليل التصعيد وحماية مصالحها في الخليج، مع الأخذ في الاعتبار أن مقوّمات واشنطن في سياستها الخارجية تنطلق من قدراتها العسكرية والاقتصادية والدبلوماسية وهيمنتها على النظام الدولي، لكن ذلك لا يعني مسعاها لتجنب الحرب نتيجة معرفتها بالتكلفة الباهظة لها.
أما الجمهورية الإسلامية الإيرانية، فإنها تعرف جيداً أنها تتعامل مع «الشيطان الأكبر»، لذا، وعلى الرغم من عدم ثقتها بالإدارة الأميركية، فهي حريصة على الحفاظ على قوتها الإقليمية، وتأثيرها الاستراتيجي، ونظامها الإسلامي في ظل القتال الأميركي الشرس للحفاظ على الهيمنة الأميركية، وكسر كل من يواجهها.
بينما تسعى إيران أيضاً لتحسين وضعها الاقتصادي الذي يعاني من وطأة العقوبات المستمرة. ورغم إصرارها على عدم التنازل عن برنامجها النووي، تعتبر طهران المفاوضات فرصة لتخفيف الضغوط السياسية والاقتصادية، بل وأيضاً لتحسين العلاقات الدولية من خلال صياغة ترتيبات تسمح لها بالحفاظ على وجودها ونفوذها في المنطقة. لكن هذا لا يجعلها تتنازل عن ثوابتها الثورية والإيديولوجية.
وفي سياسة إيران الخارجية، وإن كان ذلك بحاجة إلى تفصيل أكبر، تمتلك مقوّمات تفاوضية متينة تجعلها لاعباً محورياً في المباحثات، من أهمها الموقع الجيوبولوتيكي والاستراتيجي لإيران، والذي له تأثير في السياسة الخارجية بشكل مباشر وغير مباشر، من نواحٍ عدة. كما أنه يحدّد بدرجة كبيرة المجال الحيوي المباشر لسياسة الدولة الخارجية، وكذلك مواردها الاقتصادية المتعددة والغنية كالنفط والغاز والموارد المعدنية الأخرى التي تُعتبر عالمياً موادَّ حيوية أو مواردَ استراتيجية.
إضافة إلى ذلك، هناك عوامل ومؤثّرات غير مادية، تكمن في شكل النظام السياسي، وطبيعة العلاقات السياسية الداخلية، وإيديولوجيا النظام، والروح المعنوية، وأهميتها في التفاعل بين الموارد المعنوية والموارد المادية، وغيرها.
أيضاً، من العوامل المهمة لطهران هو تماسكها الداخلي رغم الضغوط الدولية، وشبكة حلفائها الإقليميين الذين يقفون إلى جانبها في مواجهة أي تصعيد أو عدوان. كما أن إيران، بخبرتها التفاوضية الطويلة، تجيد المساومة على قضايا متعددة، وتجيد تجزئة الملفات وربط التنازلات بتنازلات مقابلة، وهو ما يجعلها طرفاً صعب المراس في أي اتفاق. ومن المتوقّع أن تستخدم كل ذلك في العملية التفاوضية، خاصة لناحية الاستثمار في الوقت.
وعلى الرغم من جلوسها إلى طاولة المفاوضات، فإن ذلك لا يعني أنها سوف تتخلى عن ملفها النووي أو ملفها الصاروخي أو أصدقائها وحلفائها. فإيران تنطلق من فكرة أن الصراع الإقليمي والدولي لا يُفصل عن قضيتها، مواجهة الهيمنة الأميركية والإسرائيلية، وبالتالي التمسك بالقضية الفلسطينية، ودعم حركات المقاومة في لبنان وفلسطين والعراق، يُعد جزءاً أساسياً من استراتيجيتها الأمنية والسياسية. ومع أن اللحظة التاريخية والسياسية الفارقة في عمر العالم والمنطقة تدفع نحو ضرورة التفاوض لتجنب السيناريو السيئ، خاصةً بعد كل ما حدث نتيجة حرب الإبادة الإسرائيلية في المنطقة، إلا أن ذلك لا يعني التخلي عن الثوابت والتفريط بالنفوذ والتنازل عن الدور الإيراني في المنطقة.
السيناريو المتوقّع من المفاوضات
لا شك أن هناك العديد من السيناريوهات المحتملة أو المطروحة لمفاوضات عُمان، تراوِح بين استمرار الوضع الراهن أو الوصول إلى توافقات جزئية.
يجب عدم الرهان الكامل على التفاوض والوصول إلى اتفاق كامل بين ليلة وضحاها. إذا نظرنا بواقعية إلى هذا الملف، نجد أن إيران لن تذهب إلى توقيع اتفاق من خلال استخدام سياسة الضغط القصوى. لكن المُتأمّل من هذه الجولة هو تذليل العقبات من أجل بناء مناخ تفاوضي إيجابي، ومحاولة إعادة الثقة بين الطرفين، من خلال اتخاذ خطوات تنفيذية تخدم المسار التفاوضي الذي يبدو أنه سيكون طويلاً، خاصة أن مصلحة طهران تقتضي الاستفادة من الوقت.
وكما أن واشنطن معنية بتعزيز ثقة طهران المفقودة بها، فإن إيران أيضاً من المتوقّع أن تقوم بإزالة الهواجس الدولية حول برنامجها النووي، دون المساس بالملف الصاروخي الذي هو شأن داخلي إيراني يتعلق بالأمن القومي للجمهورية الإسلامية الإيرانية وفق عقيدتها الدفاعية.
وبالتالي، لا يخفى أننا فعلياً أمام مشهد تفاوضي معقّد وصعب. وإذا كان من المحتمل حصول اتفاق، فإنه يمكن أن يكون عبارة عن إعلان نوايا وتوافق على التهدئة العسكرية في المنطقة، دون الفصل النهائي في ما يتعلق بالبرنامج النووي الإيراني.
وبكل الأحوال، فإن مفاوضات مسقط هي محطة مفصلية في مسار العلاقات الإيرانية - الأميركية. وسيكون النجاح فيها، حتى وإن كان جزئياً، فرصة لفتح الباب أمام مسارات جديدة للتفاهم في المنطقة، في وقت تتزايد فيه المخاطر والتحديات أمام الطرفين.